فصل: تفسير الآيات (26- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (26- 33):

{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)}
لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على غفرنا أي: وقلنا له {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ} استخلفناك على الأرض، أو {جعلناك خَلِيفَةً} لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر {فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} أي: بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى} أي: هوى النفس في الحكم بين العباد. وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل، وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} بالنصب على أنه جواب للنهي، وفاعل يضلك هو الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوماً بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول يكون المنهي عنه الجمع بينهما، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كلّ واحد منهما على حدة. وسبيل الله: هو طريق الحق، أو طريق الجنة. وجملة: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ} تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال، والباء في: {بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب} للسببية، ومعنى النسيان: الترك، أي: بسبب تركهم العمل لذلك اليوم. قال الزجاج: أي: بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينذرون، ويذكرون.
وقال عكرمة، والسدّي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا، أي: تركوا القضاء بالعدل، والأوّل أولى. وجملة: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} مستأنفة مقرّرة لما قبلها من أمر البعث والحساب، أي: ما خلقنا هذه الأشياء خلقاً باطلاً خارجاً على الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا، فانتصاب {باطلاً} على المصدرية، أو على الحالية، أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى المنفيّ قبله، وهو مبتدأ، وخبره {ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} أي: مظنونهم، فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض، ويقولون: إنه لا قيامة، ولا بعث، ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلاً {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار} والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم، وكفرهم. ثم وبخهم، وبكتهم فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض} قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطي في الآخرة كما تعطون، فنزلت، و{أم} هي: المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة، أي: بل أنجعل الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي. ثم أضرب سبحانه إضراباً آخر، وانتقل عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه، فقال: {أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} أي: بل تجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين، والمنافقين، والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، وقيل: إن الفجار هنا خاص بالكافرين، وقيل: المراد بالمتقين الصحابة، ولا وجه للتخصيص بغير مخصص، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
{كتاب أنزلناه إِلَيْكَ مبارك} ارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأنزلناه إليك صفة له، ومبارك خبر ثانٍ للمبتدأ ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب لما تقرر من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح، وقد جوزه بعض النحاة، والتقدير: القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخير، والبركة. وقرئ: {مباركاً} على الحال، وقوله: {لّيَدَّبَّرُواْ} أصله: ليتدبروا، فأدغمت التاء في الدال، وهو متعلق بأنزلناه. وفي الآية دليل على أن الله سبحانه إنما أنزل القرآن للتدبر، والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر. قرأ الجمهور: {ليدبروا} بالإدغام. وقرأ أبو جعفر، وشيبة: {لتدبروا} بالتاء الفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن عاصم، والكسائي، وهي قراءة علي رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا بتاءين، فحذف إحداهما تخفيفاً {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي: ليتعظ أهل العقول، والألباب جمع لب وهو: العقل. {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سليمان نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} أخبر سبحانه: بأن من جملة نعمه على داود أنه وهب له سليمان ولداً، ثم مدح سليمان، فقال: {نِعْمَ العبد} والمخصوص بالمدح محذوف، أي: نعم العبد سليمان، وقيل: إن المدح هنا بقوله: {نعم العبد} هو لداود، والأول أولى، وجملة: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لما قبلها من المدح، والأواب: الرجاع إلى الله بالتوبة كما تقدم بيانه، والظرف في قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} متعلق بمحذوف وهو: اذكر، أي: اذكر ما صدر عنه وقت عرض الصافنات الجياد عليه {بالعشى} وقيل: هو متعلق بنعم، وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، وقيل: متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أواباً بذلك الوقت، والعشي: من الظهر، أو العصر إلى آخر النهار، و{الصافنات} جمع صافن.
وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي، والفراء: الصافن في كلام العرب: الواقف من الخيل، أو غيرها، وبه قال قتادة، ومنه الحديث: «من أحب أن يتمثل له الناس صفونا، فليتبوأ مقعده من النار»، أي: يديمون القيام له، واستدلوا بقول النابغة:
لنا قبة مضروبة بفنائها ** عتاق المهارى والجياد الصوافن

ولا حجة لهم في هذا فإنه استدلال بمحل النزاع، وهو مصادرة؛ لأن النزاع في الصافن ماذا هو؟ وقال الزجاج: هو الذي يقف على إحدى اليدين، ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث، وهي: الرجلان، وإحدى اليدين، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه، وهي: علامة الفراهة. وأنشد الزجاج قول الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا

ومن هذا قول عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ** مقلدّة أعنتها صفونا

فإن قوله: صفونا لابد أن يحمل على معنى غير مجرّد القيام، لأن مجرّد القيام قد استفيد من قوله: عاكفة عليه.
وقال أبو عبيد: الصافن هو: الذي يجمع يديه، ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه، فاسمه: المتخيم، والجياد جمع جواد، يقال: للفرس إذا كان شديدا العدو. وقيل: إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد، وهو: العنق، قيل: كانت مائة فرس، وقيل: كانت عشرين ألفاً، وقيل: كانت عشرين فرساً، وقيل: إنها خرجت له من البحر، وكانت لها أجنحة {فَقَالَ إِنّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِى} انتصاب {حب الخير} على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه معنى: آثرت. قال الفراء: يقول: آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئاً، فقد آثره. وقيل: انتصابه على المصدرية بحذف الزوائد، والناصب له أحببت، وقيل: هو مصدر تشبيهي، أي: حباً مثل حب الخير، والأول أولى. والمراد بالخير هنا: الخيل. قال الزجاج: الخير هنا: الخيل.
وقال الفراء: الخير، والخيل في كلام العرب واحد. قال النحاس: وفي الحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير»، فكأنها سميت خيراً لهذا. وقيل: إنها سميت خيراً لما فيها من المنافع. و{عن} في {عَن ذِكْرِ رَبِى} بمعنى: على. والمعنى: آثرت حبّ الخيل على ذكر ربي، يعني: صلاة العصر {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} يعني: الشمس، ولم يتقدّم لها ذكر، ولكن المقام يدلّ على ذلك. قال الزجاج: إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء، أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل، وهو قوله: بالعشيّ. والتواري: الاستتار عن الأبصار، والحجاب: ما يحجبها عن الأبصار. قال قتادة، وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف، وسمي الليل حجاباً؛ لأنه يستر ما فيه، وقيل: الضمير في قوله: {حتى تَوَارَتْ} للخيل، أي: حتى توارت في المسابقة عن الأعين، والأوّل أولى، وقوله: {رُدُّوهَا عَلَىَّ} من تمام قول سليمان، أي: أعيدوا عرضها عليّ مرّة أخرى. قال الحسن: إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله، وقال: ردّوها عليّ، أي: أعيدوها. وقيل: الضمير: في {ردّوها} يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي العصر، والأوّل أولى، والفاء في قوله: {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق} هي: الفصيحة التي تدل على محذوف في الكلام، والتقدير هنا: فردّوها عليه. قال أبو عبيدة: طفق يفعل، مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظلّ، وبات. وانتصاب {مسحاً} على المصدرية بفعل مقدّر، أي: يمسح مسحاً؛ لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلاً مضارعاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، والأول أولى.
والسوق جمع ساق، والأعناق جمع عنق، والمراد: أنه طفق يضرب أعناقها، وسوقها، يقال: مسح علاوته، أي: ضرب عنقه. قال الفراء: المسح هنا: القطع، قال: والمعنى: أنه أقبل يضرب سوقها، وأعناقها؛ لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: ولم يكن يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له، وجائز أن يباح ذلك لسليمان، ويحضر في هذا الوقت.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فقال قوم: المراد بالمسح ما تقدّم.
وقال آخرون: منهم الزهري وقتادة: إن المراد به: المسح على سوقها، وأعناقها لكشف الغبار عنها حباً لها. والقول الأوّل أولى بسياق الكلام، فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردّها عليه؛ ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك، وما صدّه عن عبادة ربه، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردّها عليه هو كشف الغبار عن سوقها، وأعناقها بالمسح عليها بيده، أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن إفساد المال لا يصدر عن النبيّ، فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرّر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح على أن إفساد المال المنهيّ عنه في شرعنا إنما هو مجرّد إضاعته لغير غرض صحيح، وأما لغرض صحيح، فقد جاز مثله في شرعنا كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر.
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين في الأرض} قال: الذين آمنوا: عليّ، وحمزة، وعبيدة بن الحارث، والمفسدين في الأرض: عتبة، وشيبة، والوليد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: {الصافنات الجياد}. خيل خلقت على ما شاء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {الصافنات} قال: صفون الفرس: رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر، وفي قوله: {الجياد}: السراع.
وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله: {حُبَّ الخير} قال: الماء، وفي قوله: {ردّوها عليّ} قال: الخيل {فَطَفِقَ مَسْحاً} قال: عقراً بالسيف.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال: الصلاة التي فرّط فيها سليمان صلاة العصر.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله: {إذ عرض عليه بالعشيّ الصافنات الجياد} قال: كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، فعقرها.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن ابن مسعود بقوله: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} قال: توارت من وراء ياقوتة خضراء، فخضرة السماء منها.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس قال: كان سليمان لا يكلم إعظاماً له، فلقد فاتته صلاة العصر، وما استطاع أحد أن يكلمه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {عَن ذِكْرِ رَبِى} يقول: من ذكر ربي {فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق} قال: قطع سوقها، وأعناقها بالسيف.

.تفسير الآيات (34- 40):

{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)}
قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان} أي: ابتليناه، واختبرناه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: تزوّج سليمان امرأة من بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره، ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذلك. وقيل: إن سبب الفتنة: أنه تزوّج سليمان امرأة يقال لها: جرادة، وكان يحبها حباً شديداً، فاختصم إليه فريقان: أحدهما: من أهل جرادة، فأحبّ أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق. وقيل: إن السبب: أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد. وقيل: إنه تزوّج جرادة هذه، وهي مشركة؛ لأنه عرض عليها الإسلام، فقالت: اقتلني، ولا أسلم.
وقال كعب الأحبار: إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه.
وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شيء من حيض أو غيره. وقيل: إنه أمر أن لا يتزوّج امرأة إلا من بني إسرائيل، فتزوّج امرأة من غيرهم. وقيل: إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح: أنه قال: لأطوفنّ الليلة على تسعين امرأة تأتي كلّ واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل: إن شاء الله. وقيل غير ذلك. ثم بيّن سبحانه ما عاقبه به، فقال: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً} انتصاب {جسداً} على أنه مفعول {ألقينا}، وقيل: انتصابه على الحال على تأويله بالمشتق، أي: ضعيفاً، أو فارغاً، والأوّل أولى. قال أكثر المفسرين: هذا الجسد الذي ألقاه الله على كرسيّ سليمان هو شيطان اسمه: صخر، وكان متمّرداً عليه غير داخل في طاعته، ألقى الله شبه سليمان عليه، وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان، وذلك عند دخول سليمان الكنيف؛ لأنه كان يلقيه إذا دخل الكنيف، فجاء صخر في صورة سليمان، فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان، فقعد على سرير سليمان، وأقام أربعين يوماً على ملكه، وسليمان هارب.
وقال مجاهد: إن شيطاناً قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك، فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، فذهب ملكه، وقعد الشيطان على كرسيه، ومنعه الله نساء سليمان، فلم يقربهنّ، وكان سليمان يستطعم، فيقول: أتعرفونني أطعموني؟ فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوماً حوتاً، فشقّ بطنه، فوجد خاتمه في بطنه، فرجع إليه ملكه، وهو معنى قوله: {ثُمَّ أَنَابَ} أي: رجع إلى ملكه بعد أربعين يوماً. وقيل: معنى أناب: رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب، وتكون جملة: {قَالَ رَبّ اغفر لِى} بدلاً من جملة أناب، وتفسيراً له، أي: اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله. ثم لما قدّم التوبة، والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة طلبته، فقال: {وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى} قال أبو عبيدة: معنى لا ينبغي لأحد من بعده: لا يكون لأحد من بعدي.
وقيل: المعنى: لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته، وليس هذا من سؤال نبيّ الله سليمان عليه السلام للدنيا، وملكها، والشرف بين أهلها، بل المراد بسؤاله الملك: أن يتمكن به من إنفاذ أحكام الله سبحانه، والأخذ على يد المتمرّدين من عباده من الجنّ، والإنس، ولو لم يكن من المقتضيات لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله، وجملة: {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، أي: فإنك كثير الهبات عظيم الموهوبات. ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته، وإعطاءه لمسألته، فقال: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح} أي: ذللناها له، وجعلناها منقادة لأمره. ثم بيّن كيفية التسخير لها بقوله: {تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء} أي: لينة الهبوب ليست بالعاصف، مأخوذ من الرخاوة، والمعنى: أنها ريح لينة لا تزعزع، ولا تعصف مع قوة هبوبها، وسرعة جريها، ولا ينافي هذا قوله في آية أخرى {ولسليمان الريح عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ} [الأنبياء: 81] لأن المراد: أنها في قوة العاصفة، ولا تعصف. وقيل: إنها كانت تارة رخاء، وتارة عاصفة على ما يريده سليمان، ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين {حَيْثُ أَصَابَ} أي: حيث أراد. قال الزجاج: إجماع أهل اللغة والمفسرين أن معنى {حيث أصاب}: حيث أراد، وحقيقته حيث قعد.
وقال الأصمعي، وابن الأعرابي: العرب تقول: أصاب الصواب، وأخطأ الجواب. وقيل: إن معنى أصاب بلغة حمير: أراد، وليس من لغة العرب، وقيل: هو بلسان هجر، والأول أولى، وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض {والشياطين} معطوف على الريح، أي: وسخرنا له الشياطين، وقوله: {كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} بدل من الشياطين، أي: كل بناء منهم، وغواص منهم يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر، فيستخرجون له الدر منه، ومن هذا قول الشاعر:
إلا سليمان إذ قال الجليل له ** قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن أني قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

{وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ في الأصفاد} معطوف على كل داخل في حكم البدل، وهم مردة الشياطين سخروا له حتى قرنهم في الأصفاد. يقال: قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد: الأغلال واحدها صفد. قال الزجاج: هي السلاسل، فكل ما شددته شداً وثيقاً بالحديد، وغيره، فقد صفدته. قال أبو عبيدة: صفدت الرجل، فهو: مصفود، وصفدته، فهو: مصفد، ومن هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ** وأبنا بالملوك مصفدينا

قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم، ولم يسخرهم، والإشارة بقوله: {هذا} إلى ما تقدم من تسخير الريح، والشياطين له، وهو بتقدير القول، أي: وقلنا له: {هذا عَطَاؤُنَا} الذي أعطيناكه من الملك العظيم الذي طلبته {فامنن أَوْ أَمْسِكْ} قال الحسن، والضحاك، وغيرهما: أي فأعط من شئت، وامنع من شئت {بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا حساب عليك في ذلك الإعطاء، أو الإمساك، أو عطاؤنا لك بغير حساب لكثرته، وعظمته.
وقال قتادة: إن قوله: {هذا عَطَاؤُنَا} إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع، وهذ لا وجه لقصر الآية عليه لو قدّرنا أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات، فكيف يدعي اختصاص الآية به مع عدم ذكره؟ {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} أي: قربة في الآخرة {وَحُسْنُ مَئَابٍ}، وحسن مرجع، وهو: الجنة.
وقد أخرج الفريابي، والحكيم الترمذي، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً} قال: هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوماً، وكان لسليمان امرأة يقال لها: جرادة، وكان بين بعض أهلها، وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها، فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء، فكان لا يدري أيأتيه من السماء أم من الأرض؟ وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، قال السيوطي بسند قوي: عن ابن عباس قال: أراد سليمان أن يدخل الخلاء، فأعطى لجرادة خاتمه، وكانت جرادة امرأته، وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان، فقال لها: هاتي خاتمي، فأعطته، فلما لبسه دانت له الإنس، والجن، والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال: هاتي خاتمي، قالت: قد أعطيته سليمان. قال: أنا سليمان، قالت: كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحداً يقول: أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله، وقام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد الله أن يرد على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، فأرسلوا إلى نساء سليمان، فقالوا لهن: تنكرن من أمر سليمان شيئاً؟ قلن: نعم إنه يأتينا، ونحن نحيض، وما كان يأتينا قبل ذلك، فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع، فكتبوا كتباً فيها سحر، وكفر، فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها، وقرءوها على الناس، وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس، ويغلبهم، فأكفر الناس سليمان، فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم، فطرحه في البحر فتلقته سمكة، فأخذته، وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل، فاشترى سمكاً فيه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فدعا سليمان، فقال: تحمل لي هذا السمك؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بسمكة من هذا السمك، فحمل سليمان السمك، ثم انطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان، فشق بطنها، فإذا الخاتم في جوفها، فأخذه، فلبسه، فلما لبسه دانت له الجنّ، والإنس، والشياطين، وعاد إلى حاله، وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر، فأرسل سليمان في طلبه، وكان شيطاناً مريداً، فجعلوا يطلبونه، ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوماً نائماً، فجاءوا، فبنوا عليه بنياناً من رصاص، فاستيقظ، فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا انماط معه الرصاص، فأخذوه، فأوثقوه، وجاءوا به إلى سليمان، فأمر به، فنقر له تخت من رخام، ثم أدخله في جوفه، ثم شدّ بالنحاس، ثم أمر به، فطرح في البحر، فذلك قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سليمان وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً} يعني: الشيطان الذي كان سلط عليه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً} قال: صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ عفريتاً من الجنّ جعل يتفلت عليّ البارحة؛ ليقطع عليّ صلاتي، وإن الله أمكنني منه، فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا، فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان: {وَهَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى} فردّه الله خاسئاً».
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فامنن} يقول: اعتق من الجنّ من شئت، وأمسك منهم من شئت.